الكاتبة المغربية: لبنى الفلاح – الحياة اليومية.
قيل قديما: «لو كان الاستبداد رجلاً، وأراد أن ينتسب، لقال: أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضر، وخالي الذل، وإبني الفقر، وابنتي البطالة، ووطني الخراب، وعشيرتي الجهالة». لعلَّك تسْأل عزيزي القارئ عن صاحب المقولة، حَسَنًا هو المفكر السوري – المصري عبد الرحمن الكواكبي.
عمليا ولمناقشة الوضع سننطلق من المخاوف التي وَلَّدَتْها عودة «دونالد ترامب»، والتي قلنا سالفا إن الولاية الثانية له كرئيس للولايات المتحدة تُشكل تهديدا خطيرًا لحقوق الإنسان في أمريكا والعالم برمته.
صعود ترامب أعاد إلى الذهن انتهاك الحقوق خلال ولايته الأولى بتبينه خطابا عنصريا لأنصار البشرة البيضاء والسِيَاسَات المتطرفة المُناهضة للديمقراطية والحقوق التي اقترحتها مراكز أبحاث بقيادة مساعديه السابقين، ووعودِ حمْلته الانتخابية، بما فيها اعتقال وترحيل ملايين المهاجرين، والانتقام من معارضيه السياسيين، وإظهاره الاحترام الضئيل للمعاهدات والمؤسسات المتعددة الأطراف أو جهودَ حمايةِ حقوق الإنسان للأشخاص الذين يعيشون في ظِل حكوماتٍ قمعية.
إشادة ترامب وبشكلٍ متكرر بالحُكَّام المُستبدين مثل: «فيكتور أوربان» رئيس وزراء دولة المجر منذ عام 2010، والرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»، وزعيم كوريا الشمالية «كيم جونغ أون»، وتبنيه لسياساتٍ تُضْعِفُ المؤسسات الديمقراطية التي تحمي حقوق الإنسان الأساسية وتُعارِض تمويل المساعدات الإنسانية وجهودَ المدنِيِّين في النِزاعات والأزمات الكبرى، وكذا شَراكاتِ إدارته الجديدة مع حكوماتٍ تنتهك الحقوق والحريات من شأنها تشجيع هذه الأخيرة على إيذاء مزيدٍ من الأشخاص ضمن صلاحياتِها، وإِدَامَة الانتهاكات والإفلات من العقاب في جميع أنحاء العالم؛ كلُّ هذه الأمور من شأنها أن تُعطي صورة مُوجَزَة عن طبيعة المرحلة القادمة وطبيعة المشهد.
في المغرب، المسؤولون هنا لم يحتاجوا لعودة ترامب لإحداثِ شرْخٍ بين الجماهير ونِظام الدولة، وإن ما ستُحْدِثه هذه العودة هو تعميق هذا الشرْخ وتكريس أزمة حقوقية تعيشها البلد منذ سنواتٍ أكثر فأكثر، عبر اعتقالاتٍ ومتابعاتٍ وتوقيفاتٍ جديدة لمزيد من تقييد وقمع حرية التعبير.
وبعيدا عما يُصطلح عليه بتوازن الرعب؛ العبارة التي تُستخدم عادة في مقابل توازن القِوَى، للإشارة إلى سِباق التسلح النووي بين أمريكا والاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، وبعيدا أيضا عن صناعة الرُعب حيث تحوَّل الرُعْب هنا إلى صناعة سينمائية يَجْنِي مُنتجوها بالتزامن مع كل موسم هالوين، ملايين الدولارات من دون ميزانيات كبيرة لزيادة نبضاتُ القلبِ أو الأنفاس، أو ترويجٍ ضخمٍ.
بعيدا عن كل هذا وذاك، ينحو مسؤولونا نحو ما يسمى بصناعة الخوف أو الرعب عبر بثهما في ثنايا المجتمع، وها هم وبعد الإفراج عن عدد محترم من الصحفيين والمدونين، يعيدون الكَرَّةَ بإعمار السجون بمعتقلين سياسيين جدد ومن طِينة فريدة؛ فالمعتقلون هذه المرة هم إما معتقلون حاليا على ذِمَّة قضايا رأْيٍ أخرى، أو معتقلون سابقون من أجل الرأي في العهديْن سواءٌ القديم أو الحديث، وكأن قَدَرُهُم السجن يخرجوا منه ليعودوا إليه في إطار نوعٍ من الكوميديا السوداء.
أكيد كلُّنا على اطلاعٍ بقضية الصحفي حميد المهداوي الذي أُدين في حكمٍ قضائِي جديد بسنة ونصف حبسًا نافذًا وغرامة مالية قدرها 150 مليون سنتيم لفائدة المُطالب بالحق المدني الذي هو في هذه الحالة وزير العدل، الذي تقدم بشكاية يتَّهِمُه فيها بـ«بث وتوزيع ادعاءات ووقائع كاذبة من أجل التشهير بالأشخاص، والقذف، والسب العلني»، وفق مقتضيات القانون الجنائي.
وإن كنت لا أتفق مع الصحفي المهداوي في خطابِه الموجَّه للجماهير بخصوص المؤسسات ودِفاعُه عن فُلان أو عِلان أو نَبْرَتُه الجادَّة عن الإصلاح وهي قناعَتُه التي لا ضَيْرَ فيها؛ فالمؤسسات قد تخطئ، والإصلاح يتطلب تضحياتٍ آنية وفردية في سبيل مكاسب جماعية ومستقبلية من جميع الأطراف، وهو أمر لا يمكن تهريبه بالتحايل أو تَسَوُّلُه وإنما يجب التوافق عليه بين الحكومات والأفرادِ، بل صعبَ التحقق على ضوء ما نعيشه اليوم، ومع تواجد كتْلةٍ ذاتِ مصلحةٍ مشتركة في إطار ما يسمى بـ«حزبِ الحاكم» الذي ظَهَرَ وتَمدَّدَ في بلدان عُرِفَتْ بِلَّا ديمقراطيتها، وفي حالتنا نحن أحزابٌ إداريةٌ صنعتها وتؤطرها السلطة، تجمع الموالين والمستفيدين من الوضع القائم وتُعبئهم وفقاً لمشيئتها ومصلحتها. وإن هو تحقق (أي الإصلاح) يكون مَخْرَجًا من مسارِ الضياع الذي يُحْدِقُ بالبلد كما باقي الدول العربية، وسبيلا لمواجهة الإشكاليات المُتزايِدة التي تُهدِّد الاستقرار.
قلت إنه بالرغم من تنافر خطاباتِنا، إلا أنه من الضروري التأكيد على أن النيابة العامة وهي تتابع المهداوي بفصول القانون الجنائي لا بصفته الصحفية، تكون قد حَادَتْ عن الصواب.
مبدئيا حرية التعبير بالمغرب يحكمها قانونان؛ أولهما: قانون الصحافة النشر، وهو قانون يُطَبَّقُ بحق الحاملين لبطاقة الصحافة مهنيين أو متدربين، من أجل السبِّ والقذف أو التشهير وما شَابَهَ ذلك عبر شكايةٍ مباشرةٍ لدى القضاء الواقف (النيابة العامة) يُفترض أن يقضي فيها القضاء الجالس بالغرامة، أو شكاية لدى المجلس الوطني للصحافة تقضي بعقوبات يُحَدِّدُها ميثاق الأخلاقيات المُنَظِّم للمهنة، بغض النظر عن شكاياتِ الوزراء التي لها مِسطرة خاصة تمر عبر رئيس الحكومة، ثم ثانيا: القانون الجنائي الذي يُطبق على المواطنِين العاديين غير الحاملين لصفة صحفي، وهو أمر غير سوي لأن من حق الجميع التعبير عن أفكاره متى شاء وكيفيما شاء وفقا لقانون الصحافة والنشر وفقط، ولكم أن تطلعوا على أحكام قضائية في هذا الصدد.
وفي الحالة هاته، قالت النيابة العامة عبر مداخلة لناطقها الرسمي على القناة الثانية، إن «ما يَصدُر في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الفضاءات المعلومياتية من منشورات رقمية سواء مُصَوَّرة أو سمعية بصرية لا يدخل في إطار العمل الصحفي ولا تسري عليه أحكام قانون الصحافة»، بمعنى أن حميد المهداوي لم يتصرف كصحفي وهو يناقش وقائع مرتبطة بوزير العدل، وجب تكذيبها في حالِ منافاتها للحقيقة لا تَسْطِيرُ المتابعة، مما يجعلنا نسائل النيابة العامة، من موْقع البَلادَة، عن الصفة التي يحل بها الصحفيون ضيوفا في الندوات أو يشاركوا بها في البرامج الحِوارية بالقنوات العمومية، أليست الصفة الصحفية؟
وبغض النظر عن ذلك، فالفصل 444 من القانون الجنائي ينص صراحة على أن القذف والسب العلني يُعاقَب عليْهِما وفقا لقانون الصحافة، مما يُلزم النيابة العامة بتطبيق قانون الصحافة والنشر في أية شكاية تتعلق بتجاوزاتٍ في حق حرية التعبير والرأي، وليس التفريق بين أفراد المجتمع الواحد حيث إن القاعدة المبدئية هنا أن الصحفي كما التاجر كما سائق سيارة الأجرة كما الطبيب كما المحامي كما الأستاذ الجامعي لا فرق بينهم في حرية التعبير والقانون الذي يَسْري على فُلان يَسْري على عِلان دون تجزيء. دون أن ننسى أن القانون الجنائي يُفسَّر لصالح المتهم وهو ما يعني بالضرورة أن مصدّر الحكم على الصحفي المهداوي كان يجب أن يدينه بالقانون الأصلح له كمتهم، ويُقصد بالقانون الأصلح هنا القانون الذي يُنشِئ للمتهم مَرْكزاً أو وَضعاً يكون أصلَحَ لهُ، وفي حالة الصحفي المهداوي فالأصلح متابعته بقانون الصحافة والنشر لا بالقانون الجنائي، كما تقتضيه ضرورات المصلحة الاجتماعية، إذ من حَقِّ المتهم أن يستفيد من الوضعِ الأفضل الذي منحهُ لهُ القانون.
في قضية أخرى وهي قضية الحقوقي والخبير في الاقتصاد فؤاد عبد المومني، والذي جاء قرارَ توقيفه بشكل فُجَائي كما في النُظُمِ التي تحكمها النزعة غير الديمقراطية دائما، حيث الأفعال تسبق الأقوال والقرارات وقتية فُجائية وليدةُ لحظتها وتخضع لعاطفة القابضين بزمام الأمور ورغباتهم ومصالح أتباعهم وأهواءَ مؤيديهم.
قلت إن توقيفه ضرْبٌ من الجنون، خاصة أن حيثيات الملف ترتبط هي الأخرى بتفاعله في تدوينة له بموقع «فيسبوك» نُشِرت تزامنا مع الزيارة الأخيرة التي أجراها الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» وعَقِيلَتِه للرباط. الجهات إياها قالت إن فؤاد عبد المومني «اتهم المغرب بالتجسس على فرنسا بواسطة برمجيات بيغاسوس وابتزاز فرنسا بالمهاجرين غير النظاميين ووصف الدولة المغربية بالدولة الهزيلة»، لتقرر النيابة العامة بالدارالبيضاء إطلاق سراحه بعد 48 ساعة من الحِراسة النظرية، مع الاستمرار في ملاحقته قضائيا بعدد من التهم: «إهانة هيئات منظمة ونشر ادعاءات كاذبة، والتبليغ عن جريمة خيالية يعلم بعدم حدوثها»، أَوَلَيْست الدولة التي ترتعد من تدوينة هزيلة بمعنى من المعاني؟
لا فرق بين الأمس واليوم؛ بين سنواتِ الجمر والرصاص والعهد الحالي، سِيَما أن فؤاد عبد المومني معتقلٌ سياسي سابق لمرتيْن لعمله الطلابي والسياسي في صفوف الحركة الماركسية اللينينية المعارضة آنذاك؛ اعتقاله الأول كان في عامِ 1977 قضى على إثره ستة أشهر بمعتقل «درب مولاي الشريف» الذي استقبل مناضلي اليسار في السبعينيات، واعتقال ثانٍ بسجن مكناس عام 1983 من أجل تهمة «تعريض أمن الدولة للخطر».
شيخ المعتقلين السياسيين، 82 سنة، هو الآخر على موعدٍ مع فصلٍ جديد من محاكمته الاستئنافية بمحكمة الاستناف بالرباط الأربعاء، وهي الجلسة الثانية من نوعها لاستئناف حكمٍ ابتدائِي يقضي بخمسِ سنواتٍ سِجنًا نافذًا، يضاف إلى حكم في قضيةٍ أخرى للرأي بثلاثِ سنواتٍ حبسا نافذا.
النقيب زيان الذي حُوكِمَ أمس في ملف جنحي، يُحَاكَم اليوم في مِلَفٍ جنائي رغم أن تقريريْ المجلس الأعلى للحسابات للسنتين الماليتين2021 و2023، أكدا براءته مما نُسِب إليه من طرف واضع الشكاية، بل إن هذا الأخير نفسُه أكد ببلاغٍ صادر في صحْوَةِ ضمير مؤقتة، بأن الذمة المالية للحزب صافية ولا تشُوبها شائبة وأن زيان بريء، مما يجعلنا نتساءل لما يتابع الرجل؟
الأمر جَلِيٌ ولا يحتاج إلى سؤال، فخلفية الاعتقال لا علاقة لها لا باختلاس ولا هم يحْزنون، وإنما بصوته المزعج للوبي الاقتصادي والسياسي بالضرورة المتغول في السلطة والذي يهدد مصالحهم. هي أيضا قَرْصَة أذنٍ لزعماء الأحزاب السياسية بأن المصير واحد مع النقيب زيان، إن هُم حاولوا التغريد خارج السِرْب، خاصة أن 19 حزبا سياسيا مازالوا لم يعيدوا بعد ما يقارب 29 مليارا بحسب تقرير المجلس الأعلى للحسابات للسنة المالية 2023، مما يُفَسر سبب تحريك الشكاية ضده رغم حِفْظها مرَّتيْن؛ المرة الأولى في قرارٍ صادرٍ بتاريخ 09 أبريل 2021 مُعَلل بـ«الحفظ في انتظار تعليمات السيد رئيس النيابة العامة»، والمرة الثانية بتاريخ 21 يونيو 2021 ومعلل بـ«الحفظ لانعدام الإثبات»، والأكيد من هذا كله أنكم فهمتهم مصدر التعليمات ومن حرَّك الملف والكَرْكُوزَ في الملف (جمع: كراكيز).
هكذا يبدو أن استمرار تحريكِ هذا النوع من الملفات في حق المعارضين والمنتقدين يُغدي صناعة الخوف التي يبدو أنها باتت صناعة محلية، كما في جميع البلدان غير الديمقراطية التي تتفق على أن الأمور لا يمكن أن تسير على ما يرام إلا إذا شعرت الجماهير بالخوف والتهديد الدائم، عبر ريح جديدة تعصف بالحدِّ الأدنى مما تبقى من حرية التعبير وتقييد تام لمواقع التواصل الاجتماعي، بعدما أضحى لكل مِنَّا تلفازُه الخاص وغطَّت المنصات الاجتماعية على الإعلام الرسمي، وعلى تِلك المواقع التي تضخ فيها السلطة الملايير، دون القدرة على صناعةِ رأيٍ عامٍ يقبل ولا يرفض سياساتها اللاشعبية التي تخدُم بالضرورة تحالف المال والسلط.
الخلاصة أن لسان حال المسؤولين يخبرُنا عبر هذه الاعتقالات أن «الدولة يجب أن تستمر في ملاحقة جميع المعارضين الوطنيين بدءاً من السياسيين مروراً بالصحفيين والحقوقيين والخبراء الاقتصاديين، وصولاً إلى النشطاء في أرض الواقع وبمواقع التواصل الاجتماعي، وفي الداخل والخارج، وكل شخصية مؤثرة يخشاها نظام الدولة، وتبعا لذلك لابد من تواجُدِ تُهَمٍ تَفِي بالغرض، ولابد أيضا من إخراسَ الجماهير عبر الخَوْف والتهديد للحصول على مبارَكَتِها»، إنها صناعة الخوف الامتداد الطبيعي لقاعدة العقل الميكافيلي: «من الأفضل أن يَهَابك الناس على أن يحبونك».